حملات إزالة السكن العشوائي في الخرطوم والجزيرة تستهدف آلاف النازحين بلا بدائل
3 August، 2025

حملات إزالة السكن العشوائي في الخرطوم والجزيرة تستهدف آلاف النازحين بلا بدائل

مرصد ميدان249

 

أطلقت السلطات المحلية في كلٍّ من ولايتي الخرطوم والجزيرة، خلال شهر يوليو الماضي، حملات موسعة لإزالة السكن العشوائي، استهدفت مناطق سكنية مأهولة تأوي آلاف النازحين والناجيات من مناطق النزاع، دون توفير بدائل أو ضمانات قانونية تحمي الفئات المتضررة من التشريد والانكشاف. وفيما أعلنت حكومة ولاية الخرطوم عن تنفيذ 60% من خطتها لإزالة ما تصفه بـ”العشوائيات”، باشرت لجنة إزالة السكن العشوائي بولاية الجزيرة حملة ميدانية في منطقة عبد الله مصري شرق مدينة ود مدني، مستخدمة الآليات الثقيلة والإخلاء القسري دون إنذار مسبق أو إجراءات تظلُّم واضحة.

تأتي هذه الحملات في ظل نزاع مسلح طال أمده، وانهيار شبه كامل في منظومة الحماية القانونية والاجتماعية في السودان، مما جعل هذه السياسات تمس فئات هشّة بالغة التضرر، معظمهم من النازحين والناجيات الذين فرّوا من مناطق النزاع واستقروا مؤقتًا في أطراف المدن بحثًا عن الأمان. وقد وثّق مرصد ميدان249 أن هذه الإخلاءات غالبًا ما نُفذت دون إشراف قضائي أو تقييم إنساني للوضع، مما أدى إلى فقدان مئات الأسر لمساكنها وتعرضها لأوضاع إنسانية بالغة القسوة.

وإلى جانب الإجراءات الميدانية، رافقت الحملة في الخرطوم موجة تحريض إعلامي حاد على المنصات الرقمية، تضمنت خطابًا تمييزيًا ومجترًا لعنف رمزي وفعلي ضد السكان الفقراء والوافدين إلى المدينة. إن هذا الخطاب لا يمثل فقط تهديدًا للسلم المجتمعي، بل يعكس توجهًا نحو إعادة إنتاج النزوح والتهميش باستخدام أدوات الدولة الرسمية، لا سيما في ظل المفردات العنصرية والطبقية التي تستهدف فئات سكانية تعيش في ظروف قهرية.

يؤكد مرصد ميدان249 أن هذه الحملات تنتهك بشكل مباشر العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمواثيق الإقليمية لحقوق الإنسان، التي تحظر عمليات الطرد القسري دون ضمانات واضحة، وتلزم الدول بتوفير سكن بديل عند الإزالة. كما أن تزامنها مع الانهيار المؤسسي الكامل في البلاد يجعلها بلا أساس قانوني مشروع.

بناءً على ذلك، يدعو مرصد ميدان249 إلى الوقف الفوري لحملات الإزالة والإخلاء القسري، وفتح تحقيقات مستقلة وشفافة حول الانتهاكات المصاحبة لها، وضمان تعويض المجتمعات المتضررة وتوفير حلول سكنية عاجلة. كما يدعو المجتمع الدولي إلى تحمُّل مسؤولياته في مراقبة الانتهاكات العمرانية والتمييزية الجارية، ودعم الجهود المدنية والحقوقية الرامية لحماية الحق في السكن والكرامة الإنسانية في السودان.

 

(صور لحملات ازالة لمساكن داخل الخرطوم)
سياسات متسارعة في سياق النزاع

مع بداية يوليو ٢٠٢٥، أعلنت حكومة ولاية الخرطوم، ممثلة في جهاز حماية الأراضي وإزالة العشوائيات والمخالفات، عن تنفيذ أكثر من ٦٠٪ من خطتها الرامية إلى إزالة السكن العشوائي في العاصمة، وذلك في إطار حملة وصفتها الحكومة بأنها “مدروسة”، وتشمل جميع محليات الولاية. وقد بدأت الحملة ميدانيًا في مناطق العزبة ومربعي ١٣ و١٩ بالحلفايا بمحلية بحري. سبق ذلك، في مارس، تنفيذ إزالات في منطقة العزبة أيضًا، ترافقت مع حضور أمني مكثف، وسط غياب أي ترتيبات بديلة للسكان المتضررين.

ثم امتدت الحملة إلى منطقة الخيرات بشرق النيل، وهي منطقة سكنية تشكلت خلال العقود الماضية، ويملك العديد من سكانها وثائق ملكية أو شهادات بحث، رغم عدم اعتراف السلطات المحلية بشرعية تلك الوثائق في سياق الإزالة.

لم تقتصر الحملة على ولاية الخرطوم، ففي منتصف يوليو، شنت لجنة إزالة السكن العشوائي بولاية الجزيرة حملة كبرى بمنطقة عبد الله مصري شرق مدينة ود مدني، هُدمت خلالها منازل وتعديات قالت السلطات إنها “مخالفة” وتمثل “تهديدًا أمنيًا واجتماعيًا”.

الواقع الميداني يشير إلى أن معظم من طالتهم الإزالات ينتمون إلى فئات سكانية ضعيفة اجتماعيًا واقتصاديًا، غالبيتهم نازحون من مناطق النزاع في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، استقروا في أطراف الخرطوم أو مدن أخرى مثل ود مدني بعد أن أجبرتهم الحروب السابقة على الفرار من قراهم. هذه الفئات ظلت، لسنوات، تُقيم في أوضاع سكنية هشة، تفتقر إلى الخدمات الأساسية، لكنها وفرت حدًا أدنى من الأمان مقارنة بمناطق الصراع التي فرّوا منها. ومع اندلاع الحرب مجددًا في أبريل ٢٠٢٣، تزايدت أعداد النازحين، وتوسعت المستوطنات غير الرسمية، ما جعلهم هدفًا مباشرًا لسياسات إزالة لم تراعِ أوضاعهم الهشة، ولا السياق الطارئ الذي فرضته الحرب.

 

إعادة إنتاج العنف والتهميش عبر أدوات الدولة

بالتزامن مع الإجراءات الميدانية للإزالة، شهد الفضاء الرقمي السوداني تصاعدًا ملحوظًا في الخطاب التحريضي ضد سكان الأحياء العشوائية، لا سيما الفقراء والنازحين من خارج العاصمة. هذا الخطاب لم يأتِ من فراغ، بل ارتبط مباشرة بمنشورات على صفحات محسوبة على الأجهزة النظامية، أو داعمة للخطاب الرسمي للولاية، وروجت لرسائل تعبّر عن كراهية مجتمعية ضد الوافدين وأصحاب الدخول المحدودة، من قبيل:

  • “منع السكن العشوائي والرواكيب وحرقها”
  • “غفير تاني مافي إلا بأوراق رسمية”
  • “منع عاملات من أحياء مايو والأزهري من العمل في المنازل”
  • “منع تأجير المنازل للحبش إلا بعد إظهار الأوراق الرسمية”
  • “قطعة أرض فاضية؟ ما يدقوا فيها راكوبة تاني”

 

(صور لحملات ازالة لمساكن داخل الخرطوم)

 

المفارقة أن هذه العبارات انتشرت ضمن حملات تُقدَّم كجزء من استعادة النظام العام وهيبة الدولة، لكن مضمونها الفعلي يقوم على تجريم الفقر وتكريس تمايز طبقي صارخ بين سكان المدينة “الأصليين” و”النازحين”، وهو توصيف يحمل شحنة تمييزية واضحة في الخطاب السياسي والاجتماعي السوداني.

هذا النوع من الخطاب لا يُعد فقط تعبيرًا عن رأي عام مشحون، بل يمثل توجّهًا ضمنيًّا نحو “تشريع” العنف الرمزي، بل وتهيئة المجتمع لتقبُّل العنف الفعلي ضد الفئات المستضعفة. وفي ظل غياب أي إدانة رسمية أو تحذير من هذه النزعات، تصبح الحملات الرقمية امتدادًا للسياسات الميدانية، وتُسهم في إضعاف قيم التعايش والسلام الاجتماعي، وتُرسخ تصنيفات طبقية وجهوية مهددة للنسيج الاجتماعي في العاصمة وسائر المدن السودانية.

 

(صور لحملات ازالة لمساكن داخل الخرطوم)

 

خروقات متراكبة لحقوق السكن والنزوح والكرامة الإنسانية

من منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتحديدًا العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن أي عملية إخلاء أو إزالة للسكن يجب أن تستوفي عددًا من المعايير، بما في ذلك التشاور المسبق مع السكان، وتقديم بدائل سكنية، وضمان الوصول إلى سبل الطعن والتظلم، واحترام الكرامة الإنسانية أثناء التنفيذ. ومع ذلك، فإن ما شهدته الخرطوم ومدني مؤخرًا من حملات إزالة يشكّل نموذجًا مقلقًا للإخلال بهذه الالتزامات.

تجري عمليات الإزالة في سياق يشهد انهيارًا شبه كامل في مؤسسات الدولة، وغيابًا للقضاء المستقل، وافتقارًا لأي آليات وطنية فعالة للمساءلة. كثير من الأسر فقدت وثائقها القانونية بسبب الحرب، أو لم تكن تملكها أصلًا نظرًا لطبيعة النزوح المتكرر من مناطق النزاع. بل إن بعضهم يقيم في ذات الأرض منذ سنوات طويلة، دون أن يُمنح فرصة لتقنين وضعه، ما يجعل طرده المفاجئ نوعًا من التهجير القسري، المصحوب بعقوبة جماعية تستهدف جماعات سكانية بعينها.

تؤدي هذه السياسات إلى مفاقمة الأزمة الإنسانية، حيث يجد المتضررون أنفسهم مرة أخرى بلا مأوى أو حماية، في ظل شُح المساعدات وغياب أية بدائل سكنية أو خدمية. وتكشف هذه الحملات عن بنية قانونية وإدارية غير عادلة، تقوم على تمييز ضمني ضد فئات اجتماعية وجغرافية محددة، وهي ذات الفئات التي لطالما عانت من التهميش السياسي والتنموي لعقود.

في المحصلة، لا يمكن قراءة هذه السياسات بمعزل عن السياق السياسي والأمني الأوسع في السودان، حيث تتقاطع أهداف السيطرة على الأرض والموارد مع توجهات مقلقة لإعادة هندسة الحيز الحضري بطريقة تستبعد الفقراء والمهمشين من فضاء المدينة. وهذا يعيد إنتاج منطق النزوح والتهميش، ولكن هذه المرة عبر أدوات الدولة وتحت غطاء قانوني وإداري، في انتهاك صارخ للحقوق الأساسية.

 

(صور لحملات ازالة لمساكن داخل الخرطوم)

التوصيات

انطلاقًا مما وثّقه مرصد ميدان249 من انتهاكات جسيمة لحقوق السكن والكرامة الإنسانية في سياق حملات إزالة السكن العشوائي في ولايتي الخرطوم والجزيرة، يوصي المرصد بالآتي:

أولًا: إلى السلطات المحلية والحكومة السودانية
  • الوقف الفوري لجميع حملات الإزالة والإخلاء القسري، لا سيما تلك التي تُنفذ دون إشراف قضائي أو تقييم إنساني.
  • الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يشمل ضمان توفير بدائل سكنية لائقة للمتضررين.
  • ضمان المساءلة المستقلة والشفافة بشأن الانتهاكات المرتكبة، ومحاسبة المسؤولين عن الأضرار التي لحقت بالأسر النازحة والمهمشة.
  • تفعيل آليات التظلم والانتصاف للمتضررين، وتسهيل حصولهم على تعويضات عادلة ومنصفة.
  • وقف خطاب الكراهية والتمييز الطبقي والجهوي في الإعلام الرسمي والرقمي، ومحاسبة الجهات المتورطة في نشره أو ترويجه.
ثانيًا: إلى المنظمات الحقوقية والمدنية
  • توثيق الانتهاكات المصاحبة لحملات الإزالة، ورفعها إلى الجهات الدولية والإقليمية المختصة.
  • دعم المجتمعات المتضررة قانونيًا ونفسيًا وإنسانيًا، بما يشمل تقديم الاستشارات القانونية والمساعدة في توثيق الحقوق السكنية.
  • تنظيم حملات مناصرة لوقف الإخلاءات القسرية والدفاع عن الحق في السكن والكرامة.
ثالثًا: إلى المجتمع الدولي والهيئات الأممية
  • مراقبة الانتهاكات العمرانية والتمييزية الجارية في السودان، وفرض ضغط سياسي ودبلوماسي على السلطات لوقف هذه الممارسات.
  • دعم جهود المنظمات المدنية المحلية في تقديم المساعدة الإنسانية والقانونية للنازحين المتضررين.

إدراج ملف الإخلاء القسري والانتهاكات المرافقة له ضمن أولويات الاستجابة الدولية في السودان، لا سيما في سياق النزاع القائم والانهيار المؤسسي.

Share the Post:

التقارير المتعلقة

تقرير الطلقة الاولي

ملخص تنفيذي   يصدر هذا التقرير ” الطلقة الاولي” عن مركز كادن للعدالة وحقوق الإنسان ضمن إطار مشروعه الخاص بـ”

Read More